الشيخ محمد النخلي القيرواني 1285-1342 هـ / 1868 – 1924 م
العالم المستـنير:
علم من أعلام الزيتونة الأفذاذ، له من سعة الإطلاع ودقة البحث وحرية التفكير، ما أهّله ليكون من الروّاد الأول في تركيز حركة الإصلاح، والتوعية والدعوة إلى إعمال الفكر، والإقبال على العلوم قصد التطور والتقدم. وقد كان له التأثير العميق على تلامذته والذين من بينهم عبد الحميد بن باديس، والطاهر الحداد، وغيرهما من رجالات الزيتونة ، ومن كان لهم إشعاع على الثقافة بربوعنا التونسية حاملين طيّ جوانبهم وجوارحهم فكرة البحث النزيه والنظر إلى الإسلام بكونه الدين الحنيف الصالح لكل زمان ومكان، يتماشى وواقع كل عصر، بما يحويه من تأمّلات في المعاملات البشرية الخاصة منها والعامة.
كان الشيخ محمد النخلي مثالا للجد والعمل الدائب، وإن رائده دائما حرية التفكير في نزاهة العالم الصادق والمخلص في مهنته، لا تأخذه في الحق لومة لائم ، ينظر بمنظار الوعي الدقيق للأشياء، ولا يترك مسألة تمرّ وقد أبدى فيها الأقدمون أحكامهم دون أن يكون له موقفه الخاص منها بالتأييد أو المخالفة، مستدلا بالحجة والبرهان، ومقدّما أقوم الحلول وأقربها إلى المنطق والصواب.
النخلي رائد الاجتهـاد:
كانت حياته خصبة معطاء، بفضل هذا الذكاء النادر الذي اتسم به، وبفضل عصاميته وكفاحه ... ولم يكن الشيخ النخلي متمّيزا بهذا الجانب العلمي في رحاب الزيتونة من حيث اتساع دائرته في تفسيره للقرآن الكريم بل كان له الباع الطويل في ميدان الشعر والأدب والفصاحة والبيان، وقد وقف هذه الطاقة لخدمة الأغراض الوطنية وبالأحرى خدمة بلاده، فكان من أول الشعراء الذين تفطنوا لذاك الغزو الحضاري الداخل على البلاد منذ أواخر القرن التاسع عشر، فكانت له المواقف والآراء التي تقرّب الشقة بين الأخذ بأسباب الحضارة والثورة على القديم البالي الذي لا يفيد.
- يؤرخ له الشيخ محمد مخلوف في كتابه الشهير " شجرة النور الزكية" بقوله : " كان نقادا خبيرا، ميّالا لتحقيق المباحث، اشتهر بالذكاء والصراحة في أقواله، التحق بجامع الزيتونة سنة 1304 هـ حيث درس على الشيخ سالم بوحاجب ومحمود بن محمود ومحمد النجار وغيرهم .... كان يقول الشعر ويجيده، تولى خطة التدريس من الطبقة الأولى، توفي وبتونس في رجب 1342هـ وكانت جنازته مشهودة، حيث إرادة حمل جسده للقيروان، وكذلك بالقيروان، ودفن بالجناح الأخضر، ورثاه بعض طلبته بقصائد فرائد".
- ويعرّف به الطاهر الحداد في حديثه عن الإجتهاد وحال العلوم بجامع الزيتونة في عهده:
- "غير أنهم (الشيوخ) ويا للأسف قد جروا على خلاف ذلك، فأيدوا الروح الموروث عن شيوخهم ، وحرموا رائحة التفكير المستقل في عامة العلوم وأغروا تلاميذهم بالتشنيع على من يتظاهر من الشيوخ بشيء من الرأي المخالف للمألوف بالمعهد، حتى ولو كان موافقا لرأي قديم اختاره بعض العلماء السالفين، فقد عاش المرحوم محمد النخلي جزءا من حياته بالمعهد (الزيتوني) وهو مطعون في عقيدته، بما أضاع كثيرا من نشاطه في الدروس، وجعله يقرئ دروسه بعد كعمل ميكانيكي يفرضه عليه الوظيف، وكذلك طعن على المرحوم الشيخ سعد السطيفي حتى مات مدحورا في بيته المظلم الصغير بمدرسة النخلة حذوا الجامع الأعظم ...
شعــــره:
من شعر الشيخ النخلي قصيد رائع يستنهض الهمم والعزائم وقد نشره بجريدة الحاضرة في 18 محرم 1318 هـ / 30 أفريل 1901، يقول فيه:
هو المجد في الإسلام أثله العلم على مقتضى دين به انقشع الوهم
تعال نبارك روض آثاره التي على صحف التاريخ يبدو لها رسم
وانظر في هذا الرثاء المؤثر الذي دبّجه حسرة على الأستاذ الإمام الراحل محمد عبده يقول في مطلع القصيد:
مصاب به الإسلام باك موجع وخطب به الإصلاح ركن مزعزع
إلى أن يقــول:
أبان لهم العلوم وإن نمت الصديق لهذا الدين بل منه تكرع
محمد من يجلو حقائق دينه منصة تبيان بها الفكر يقنع
تلك عينات من شعر النخلي سواء في الدعوة إلى الإصلاح، أو تأثره بوفاة رائد من رواده، في فترة كان العالم العربي والإسلامي في أشد الحاجة إلى مثل هذا المرشد والإمام.
إن النخلي عاش عصره، بكل ما فيه من أحداث، وانعكست العديد من العوامل والمؤثرات على شعره، فكان بحقّ من المجيدين الأول في مطلع هذا القرن.
نـثـــره:
لم يكن قلمه وقفا على الشعر، بل تجاوزه إلى النثر، وكم كان لمترجمنا العديد من المواقف، سواء في الصحف أو المجلات، وانبرى في الكثير منها يكتب ويخطّ ما يملي عليه الظرف وما يملي عليه ضميره من توجيه سديد بآراء صائبة رائدة.
وقد كتب في الأدب والتاريخ، والعلم والدين والاجتماع، وفي كل ما له اتصال بمقومات الشخصية العربية الإسلامية الحقة، زد على ذلك، ما كان له من باع في ميدان الخطابة، وتأثيره على سامعيه، فكلن كلامه يقع على العقل والقلب معا، بلا تكلّف أو صنعة... وإذا السامع يخرج بزاد ثريّ من المعاني السامية الجليلة، والإرشاد القيم الوجيه..
تلامــيذه:
هذا وقد كان من بين تلامذة الأستاذ محمد النخلي الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وهما "من روّاد النهضة الفكرية والإصلاحية بتونس في العصر الحديث كما يعتبران من أبرز أتباع مدرسة الإمام محمد عبده والعاملين على نشرها".
تأسيس الجامعة الزيتونيـة:
هذا ويعتبر الشيخ النخلي ضمن مؤسسي جمعية الجامعة الزيتونية، وقد كان مزمعا على إلقاء محاضرة بقاعة الخلدونية في اليوم الرابع من محّرم سنة 1325هـ .على مسامع من استدعتهم الجامعة لبيان مقاصد الجمعية، وما تبغي تحقيقه في مجال النهضة العلمية بجامع الزيتونة ، إلا أن ظروفا عائقة حالت دون ذلك، وقد نشرت مجلة المنار المصرية هذه المحاضرة وعلقت عليها بما يلي:
"نحيي الجمعية الزيتونية ونحمد الله أن وجد في علمائنا مثل هذا الخطيب، وعسى أن يكون لطلاّب الأزهر جمعية مثلها" وقد استهل الشيخ محاضرته بالبيت التالي:
ليس الحداثة في سن بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
تــآليفـه:
أما من حيث التأليف ، فإن الشيخ محمد النخلي لم يترك أثرا مطبوعا سوى نشرية في اثنتي عشرة صفحة بعنوان : حياة اللغة العربية، مطبعة النهضة – تونس، بدون تاريخ- وقد قدّم لها ابنه السيد عبد المنعم النخلي. إلا انه وكما أشار إلى ذلك الأستاذ أحمد توفيق المدني في تقويمه " المنصور " قد ترك العديد من الدراسات تهيأ لنشر البعض منها غير أن ظروفا قاهرة حالت دون ذلك ، وسوف نورد فيها يلي البعض منها على سبيل المثال لا الحصر، وحتى نلفت نظر الباحثين والدارسين إلى وجوب الاهتمام بها ونفض غبار النسيان عنها:
رسالة في المرأة المسلمـة:
وهي كما أشار الأستاذ المدني على اختصارها تكاد تكون فريدة في بابها ، حيث ذكر فيها من مظاهر عناية الشريعة السمحاء بالمرأة وتوفيتها حقها مع الأدلة الشرعية ما لا يوجد في مؤلف في هذا الموضوع ، وكان كتب عنه إلى من سأله توجيه نسخة منه إليه وهو بالقيروان ما نصه:
"وأما تأليف المرأة المسلمة فقد قضى الله بتشتيت شمله، فآخره عندي بالقيروان وأوله بتونس ولا أعلم كيف شتت هذا التشتيت، كأني حسبت أني نقلته بتمامه إلى تونس، وأنا لم أنقل إلا بعضه في الواقع".
- محرّر مختصر في مسألة الناقص بالفصاحة .
- رسالة في تراجم شيوخه على طريقة الفتح بن خاقان في كتابه قلائد العقيان.
- ألفية في الجغرافية
- رجز في العروض والقوافي.
- دراسة في تفسير قوله تعالى: "ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا"
- دراسة في تفسير قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"
- دراسة في تفسير قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، ويذهب الأستاذ المدني إلى أن هذه الدراسة من أهم ما خطت يد الشيخ الأديب.
- دراسة تاريخية فلسفية في دول الوليد بن عبد الحكم الأموي، والمأمون، وأبي جعفر المنصور، العباسيين صدّرها بمقدمة في دول الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم إلى دولة الوليد، وأملى معظمها في مسامرات بنادي الصادقية سنة 1324هـ.
من خلال ما تقدم ذكره من دراسات لم تنشر، نستكشف أن الشيخ محمد النخلي كان له نشاط غزير، سواء في مجال المسامرات والمساهمة في النهضة الفكرية مطلع القرن العشرين، أو في هذه التحقيقات والتحارير التي دبجتها براعته، وكم نحن في شوق متزايد إلى السعي وراءها واستكناه مضامينها حتى يعمّ النفع الجميع، وحتى نعيد إلى هذا العالم الكبير بعض مجده العلمي ومكانته التي يستحقها بين أعلام الزيتونة العظام.
لقد عاش النخلي للعلم والتعليم وليس غير سواهما، وحتى في سنيّ مرضه العضال الذي أودى بحياته رحمه الله كان يبحث ويطالع شتى المؤلفات قديمها وحديثها، وفي أي مادة كانت ويحادث طلبته وخلانه في مواضيعها المختلفة مبديا آراءه ومواقفه فيعترف له القوم بهذا النبوغ وهذه العبقرية التي قلما يوجد الزمان بمثلها.
دائرة المعارف التونسية (الكراس 5/ 1995)
الأستاذ: محمد أنور بوسنينه