السنوسي.. هذه بضاعتنا
(في ذكرى مولده: 22 من ذي القعدة 1276هـ)
بجامع الزيتونة ورجاله تأثر السنوسي
كانت أبرز التيارات الداعية إلى اليقظة والبعث في تونس هي الحركة الإصلاحية التي حمل لواءها "خير الدين التونسي"، وكانت تجمع بين الدين والسياسة، وتزاوج بين الحضارة والإسلام وتفتح الطريق للأخذ بأسباب القوة التي امتلكها الغرب لكي تقاومه بها. وقد حاول خير الدين تطبيق ما دعا إليه عندما تولى الحكم في تونس، وكان من ثمرة ذلك صدور أول دستور في العالم الإسلامي كله وتكوين مجلس تشريعي. وقد ضمّن خير الدين أفكاره الإصلاحية كتابه المعروف "أقوم المسالك".
وقد اجتذبت هذه الدعوة الإصلاحية كثيرا من أهل الرأي والفكر، وكان بعضهم من علماء الزيتونة مثل الشيخ سالم أبو حاجب ومحمد بيرم الخامس. وكان من نتائج هذه الدعوة أن أنشئت المدرسة الصادقية التي تجمع بين علوم الإسلام والعلوم الحديثة. وصدرت صحيفة "الرائد التونسي" سنة (1281هـ=1864م) وهي أول صحيفة في المغرب العربي، وكانت منبرًا للإصلاح، وتولى تحريرها محمد السنوسي، أحد دعاة الإصلاح في تونس.
المولد والنشأة
في بيت من بيوت العلم العريقة ولد محمد السنوسي في تونس في (22 من ذي القعدة 1276هـ = 18 من سبتمبر 1851م)، وتعهدته أسرته بالتربية والتهذيب، ثم التحق بجامع الزيتونة حيث تتلمذ على عدد من أعلامه مثل: أحمد بن الخوجة، وعلي بن أبي القاسم العفيف، ومحمد بيرم الخامس، ومحمد الطاهر النيفر.
ولزم محمد السنوسي شيخين جليلين كان لهما أكبر الأثر في حياته، وتفكيره هما: الشيخ محمود قابادور، والشيخ سالم بوحاجب، وعن طريقهما تعرف إلى رجال الإصلاح من الضباط ورجال الإدارة في الحكم، وفي مقدمتهم خير الدين التونسي والجنرال حسين. وبعد أن صار محمد السنوسي من أنجب خريجي جامع الزيتونة جلس للتدريس به سنة (1287هـ = 1870م).
في خضم ميادين الإصلاح
ولما ذاع صيته عينه المشير الثالث "محمد الصادق" باي تونس معلما للأمير محمد الناصر باي، فاتبع معه أسلوبا جديا في التعليم يجمع بين السنن القديمة والموروثة والمتطلبات الحديثة في التربية، ثم اختاره محمد بيرم الخامس ليعاونه في بعض المهام الكبيرة في أثناء تولية خير الدين التونسي الوزارة الكبرى، فعينه في سنة (1291هـ – 1478م) كاتبًا أول لمجلس جمعية الأوقاف التي كان يتولى رئاستها، وأضاف إليه تحرير جريدة الرائد التونسي في سنة (1293هـ = 1876م) وفي هذين العملين أعان رئيسه على تنظيم إدارة الأوقاف وكتابة افتتاحيات الجريدة، والإشراف على طبع الكتب بالمطبعة الرسمية.
وظل محمد السنوسي يعمل في هاتين المؤسستين حتى بعد استقالة خير الدين التونسي من الوزارة، حتى إذا احتلت فرنسا البلاد التونسية سنة (1298 هـ = 1881م) فُصل السنوسي عن تحرير جريدة الرائد، وبقي في منصبه في جمعية الأوقاف التي بدأت تعبث بها الأهواء وتدخُّل الحماية الفرنسية، فلم يطق ذلك وقرر مغادرة البلاد.
الرحلة الحجازية
استطاع محمد السنوسي أن يحصل على إذن بالسفر للحج بعد لأي وتعب، فسافر إلى إيطاليا في (رجب 1291 هـ = مايو 1882م) والتحق بالجنرال حسين وكان من محبي الإصلاح ورافقه في زيارة عدة مدن إيطاليا، ثم اتجه إلى إستانبول، والتقى هناك بخير الدين التونسي الذي كان قد استدعاه السلطان عبد الحميد ليتولى الصدارة العظمى، وأقام عند محمد بيرم الخامس الذي غادر تونس بعد الاحتلال الفرنسي، ولم تطل مدة إقامة السنوسي في عاصمة الخلافة، فقصد الحجاز في (ذي القعدة 1299هـ = سبتمبر 1882م) وأدى فريضة الحج، واجتمع بعدد من العلماء هناك، ثم سافر إلى دمشق والتقى بالأمير عبد القادر الجزائري قائد حركة المقاومة والجهاد ضد فرنسا في الجزائر، (26 من ربيع الأول 1300هـ = 5 فبراير 1883م) وقد سجل السنوسي هذه الرحلة في كتابه "الرحلة الحجازية" ودوَّن فيها مشاهداته، وما رآه في إيطاليا، من علوم ومخترعات، وتعرض لطرح بعض المسائل الفقهية والأخلاقية كالتي تتعلق بالإجهاض والتمثيليات المسرحية ومسابقات الخيل والرماية، وطعام أهل الكتاب، وأجرى مقارنات بين العالم العربي الإسلامي والعالم الغربي المسيحي، وضمَّن كتابه التعريف بخمسة وعشرين رجلاً من أعلام الأدب والفقه والسياسة والحرب الذين التقى بهم في رحلته.
العودة إلى تونس
وبعد عودته إلى تونس استأنف محمد السنوسي نشاطه في جمعية الأوقاف، وانخرط في عمله مع أهل الرأي والفكر الذين قُيدت حركاتهم بعد انتصاب الحماية الفرنسية التي رسخت أقدامها في البلاد، وكان السنوسي يطالع باهتمام مجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها في باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان هناك مراسلات بين السنوسي ومحمد عبده.
ويبدو أن السنوسي كان من مؤسسي الفرع التونسي للجمعية السرية الإسلامية التي كانت تسمى جمعية العروة الوثقى، وقد زار محمد عبده في تونس في (19ممن صفر 1302هـ – 6 من ديسمبر 1884م) واستُقبل هناك استقبالاً حسنا من قبل الحكومة وكبار رجالها وعلمائها، وأقيم له عدد من الاحتفالات احتفاءً به، وكانت إقامته مناسبة لمحادثات ومناقشات في كثير من أمور الدين والحياة والتطلع إلى النهوض والتقدم بدأت مقصورة على الأندية الخاصة، ثم امتد صداها ليشمل طوائف كثيرة من الشعب.
النازلة التونسية
اشتعلت في تونس في (16 من جمادى الأولى 1302هـ = 3 من مارس 1885م) حركة احتجاج على السلطة الفرنسية، أثارها عدد من الإجراءات اتخذتها قوات الاحتلال، استهدفت تغيير في نظم الحياة في العاصمة التونسية، وفرضت على الناس ضرائب جديدة، وقد استمرت هذه الحركة شهرًا كاملا، تعددت في أثنائها الاجتماعات التي عقدت في جامع الزيتونة المعمور وفي غيره، وانتظمت المظاهرات أمام قصر الباي حاكم تونس، وكُتبت العرائض.
ونجحت قوات الاحتلال في السيطرة على الموقف واتخاذ إجراءات قمعية، كان من بينها عزل السنوسي عن وظيفته لمشاركته في هذه الحركة الاحتجاجية، والإبعاد إلى مدينة "قابس". ولم تطل مدة نفيه أكثر من ثلاثة أشهر عاد بعدها إلى العاصمة بعد صدور عفو من الباي. وقد سجل محمد السنوسي أحداث هذه الحركة في كتابه "خلاصة النازلة التونسية" الذي ألفه سنة (1302هـ = 1885م) لكنه لم ير النور إلا في سنة (1397هـ = 1976م) حين نشره محمد الصادق بسيس في تونس.
ما بعد النفي
عين السنوسي بعد رجوعه من منفاه سنة (1303هـ=1886م) كاتبًا للمجلس العقاري المختلط، وحاول أن يخدم وطنه في ظل الاحتلال بعدما شاهد من اضطراب الصفوف وخور العزائم في أثناء الحركة الاحتجاجية، ثم انتقل إلى العمل في عدة مناصب قضائية. واشترك في تأسيس جريدة "الحاضرة" إلى جانب جريدة الرائد، ثم سافر إلى فرنسا في سنة (1306هـ=1889م) لزيارة المعرض الدولي في باريس. وقد وصف السنوسي رحلته هذه في كتابه "الاستطلاعات الباريسية في معرض سنة 1889م" دون فيه إعجابه بالحضارة العصرية الجديدة، وعقد مقارنات بين الحالة التي كانت عليها ديار الإسلام من تخلف وفقر وما عليه أهل الغرب من تقدم وازدهار، وأسباب ذلك، وسجل ما شاهده في فرنسا من نظم الحكم ومؤسسات التعليم والثقافة، وكان كلما تعرض لشيء مما شاهده وأعجب به، ذكّر قارئه بمثيله مما كان عند المسلمين في أوج حضارتهم، فحين وصف المكتبة العامة بباريس، أشار إلى ما كان عليه بعض خلفاء المسلمين من شغف في جمع الكتب مثل المأمون في بغداد والحكم الأموي في قرطبة، وحين ذكر عناية الدولة في فرنسا بالتعليم وكثرة المدارس وبخاصة العليا، أشار إلى عناية الإسلام بنشر المعارف والعلوم وطلب تعلمها.
وبعد عودته من باريس تعرض لسخط الحماية الفرنسية عليه بسبب مواقفه الوطنية، ثم تعرض لمرض عضال لم يشف منه حتى وافته المنية في (24 من رجب 1318هـ = 17 من نوفمبر 1900م).
مؤلفاته وإنتاجه الفكري
أما آثار محمد السنوسي فهي متنوعة شملت الأدب والقانون والتاريخ والدين، فلم تشغله أعباؤه عن مواصلة الكتابة والتأليف، وتضم مؤلفاته:
1 - مجمع الدواوين التونسية، استوعب فيه شعر نحو خمسين شاعرًا من فحول الشعراء بتونس. وطبع من الكتاب جزءان، وتضم دار الكتب الوطنية بتونس ثلاثة أجزاء لا تزال مخطوطة.
2 - تفتق الأكمام، وهي رسالة في المرأة يوضح فيها ما للمرأة المسلمة من حقوق وواجبات، ولا توجد إلا مترجمة بالفرنسية نقلها من العربية محيي الدين السنوسي ابن المؤلف.
3 - والروض الزاهر في إسناد الحبس للإسلام الزاهر، ويقصد بالحبس الأوقاف، تحدث في هذا الكتاب عن دور الأوقاف في البلاد التونسية، مبرزًا ما لها من مزايا في مكافحة الفقر من جهة ونشر العلم والعناية بأهله من جهة أخرى.
4 - مسامرات الظريف بحسن التعريف. ويقع في ثلاثة أجزاء، يتعرض فيه لتاريخ فقهاء الدولة الحسينية بتونس، من فقهاء وقضاة.
5 - الأجنة الدانية الاقتطاف بمفاخر سلسلة السادة الأشراف، وهي قصيدة في المدح تشتمل على 251 بيتًا نظمها محمد السنوسي في سلسلة الأشراف بتونس.
6 - تحفة الأخيار بمولد المختار، وهو مؤلف مفقود.
7 - النبذة التاريخية في منشأ وزارة مصطفى بن إسماعيل.
وقد استخدم السنوسي في تأليفاته المتنوعة مصدرين رئيسيين، هما: ثقافته في المنقول والمعقول مستعينًا بكتب الفقهاء، وثقافة أخرى حصل عليها من مطالعته للصحف العربية والمجلات المصرية التي كانت تصل تونس، وتأثر بها عدد غير قليل من قادة الحركة الفكرية في تونس.
ومحمد السنوسي يمكن عده من رجال الإصلاح في العالم العربي، وإن لم يقم بدور بارز مثل ما فعله خير الدين التونسي أو الأفغاني أو محمد عبده، ولا يمكن إغفال تأثيره باعتباره داعية ماهرًا، أذاع تصورات عصره المتعلقة بيقظة الإسلام، وساعد على تنبيه المسلمين، وإيقاظهم من غفلتهم، والسعي إلى التحرر من الهيمنة الغربية، واعتمد في نشر أفكاره على المقالات التي كانت تنشرها له جريدة الرائد، مستندًا إلى الدقة في العرض، والمنطق في الإقناع.
* من مصادر الدراسة:
محمد الصادق بسيس: محمد السنوسي حياته وآثاره – تونس – 1976م.
أحمد عبد السلام: المؤرخون التونسيون – بيت الحكمة – قرطاج – تونس – 1993م.
أنور الجندي: الفكر والثقافة في شمال إفريقيا – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة – 1385هـ = 1965م.
محمد الطالبي وآخرون: دائرة المعارف التونسية – بيت الحكمة – قرطاج – تونس – 1992م